top of page
Search
نصير شمّه

أوركسترا الشرق

سنوات طويلة مضت وأنا أحلم بأن أكتنز الشرق في مطلقه بكل ثرائه وتنوعاته وجمالياته وفلسفاته على خشبة مسرح واحد، ليقدم صوتاً جديداً هو صوت الشرق المعاصر، وإن كان بأدوات موسيقية تقليدية وعريقة جداً. ظللت أردد مع نفسي هذا الحلم وأقدمه على مراحل هنا وهناك في هذا البلد وفي ذاك. أجمع خمسة وعشرة من عازفين مبدعين لأحاور آلاتهم رغبة مني في اكتشاف معالمها وروحها، وأيضا في إقامة حوار معها، فأدعو أشرف شريف خان الباكستاني على السيتار، وعازفين على آلة السنطور من إيران، وآلة الليرا والقانون التركي والمصري وآلة الجوزة العراقية والناي الآلة الموسيقية الأعرق والقيثارة وغيرها من الآلات.

مع كل حفل كنت أرى هذا الحلم بدأ يقارب نفسه ويتجسد، صار يقترب أكثر فأكثر ليكون مسارا جديدا في عالم الموسيقى يؤطر هذا الانفلات الروحي ويصبح طاقة كبيرة تسلط جمالا على المستمع الذي يلامسها. في سنة 2006 وعدت جمهور مهرجان الموسيقى الكلاسيكية في أبو ظبي بأني سأقدم تجربة غير مسبوقة في عام 2008، وكنت في حاجة لكل هذا الزمن والخبرة والتنوع في العروض في أنحاء كثيرة من العالم، لكي أطلق النداء وأيضا كي يلبي الجميع دعوة العمل المشترك، خصوصاً أن أغلب العازفين تعلموا أن يكونوا على مسارح العالم متوجين بمفردهم أو قائدين لمجموعات، لكن قوة رغبتي في رؤية هذا الحلم وهو يتجسد أقنعت أقطاب العزف على آلات الشرق من أقصى الصين إلى أعمق نقطة من عالمنا العربي وبدأت رحلة الكتابة الموسيقية وتأسيس مجاميع عزفية كي تصبح هذه الفكرة ممكنة، كان هدفي إثراء التنوع لأقدم عرضا يحتفي بروح الشرق وغناه، وأن يكون تجسيد هذا الحلم عبر آلات هذا الشرق لنقدم عرضاً أقل ما يقال عنه إنه مبتكر. بدأت آليات العمل لتجسيد هذا الحلم كي يصبح مشروعاً فنياً بعد تأسيسي لبيت العود العربي في القاهرة سنة 1998 مع الفنان فاروق حسني وزير الثقافة، عبر دار الأوبرا المصرية وصندوق التنمية الثقافية، وتخريجي لعدد مهم من العازفين والأساتذة على آلة العود، وبعد أن أصبح نظام التدريس مضمون النتائج، ووصل إقبال الشباب إلى الرغبة في اكتشاف آلة العود وتعلمها إلى حد كبير جدا، بدأت بفتح قسم القانون وأوكلت مهمة الإشراف عليه للفنان صابر عبد الستار، وهو العازف الذي عمل معى منذ عام 1998 وتشرب طريقتي في العزف وفي التفكير وفي أسلوب العمل، وجاءت النتائج تهلل بفريق من عازفي القانون بنات وبنين بأعمار صغيرة، ليصبح فريق القانون خلال عامين مؤهلاً لأن يكون بنية أساسية ضمن بناء الأوركسترا، وبما أني أردت أن أقطع شوطاً بين محل إقامتي في مصر فكان عليّ أن أخطط لتوليفة من ثلاثين عازفا على آلات العود كمجموعة والقانون كمجموعة والناي كمجموعة فعهدت بمسؤولية مجموعة الناي للعازف ممدوح سرور، الذي بذل جهدا لا يقل عن زميله الفنان صابر عبد الستار، وهيأ لي فريقاً يقوده من 9 عازفين على آلة الناي، وبدأت بفتح قسم آخر لآلة جديدة على التعليم في مصر وهي آلة البزق، وكلفت بها خريج بيت العود العربي من سوريا جوان العلي، الذي تحمل المسؤولية وبزمن قياسي كون لي مجموعة من 5 عازفين على آلة البزق، ولهذه الآلة اختلافات بسيطة بالأطوال وبعدد الأوتار وبالتسميات، منهم من يسميها بغلمة ومن يسميها ساز ومنهم من يسميها بزق، وكل هذه التسميات تعود إلى العصر الأكدي 2350 ق. م ويرجع أصلها إلى العود ذي الرقبة الطويلة، ولكن أوتارها من المعدن وتعطى تلوينا مغايراً لصوت العود الذي نصف أوتاره من النايلون والنصف الثاني من الحرير والمعدن، وبهذا أصبحت لدينا مجموعات أربع إضافة إلى مجموعة الإيقاعات المكون من 3 عازفين وبدأ العمل منذ مطلع 2007 كمجموعة أردت لها في البداية الكثير من العمل والبروفات المشتركة لنشكل حالة الانسجام، خصوصاً أن المعتاد أن نفخة عازف الناي لا يمكن أن تلتقى مع عازف ناي ثان وريشة العود لا يمكن أن تشبه ريشة عازف ثان وهكذا باقي الآلات. لكن التمرين والجدية في العمل والكتابة الموسيقية التي لا تترك فرصة للإضافات التي أباحت للعازف العربي والشرقي أن يزخرف ما يشاء، حددت ملامح صوت فيه أفق التجديد وأفق العمل الجماعي الشرقي، ولكن الشرق ليس العود والقانون والناي والبزق والإيقاعات فقط، هناك السيتار والسنطور والجوزة والليرا والبيبا وآلات الصين وتايلند وإيران وتركيا واليونان وباقي أرجاء الشرق. بدأت بالبحث في أوراقى وذاكرتى عن أمهر عازفي الآلات الموسيقية التي لا نملكها في عالمنا العربى وبدأت تتشكل ملامح الشق الثاني من الأوركسترا التي تتكون من أكثر من 37 عازفا غير 30 عازفا الذين هم في الأساس ينتمون إلى دول عربية مختلفة. بدأت في البحث في أوروبا عن عازفين لمعوا وأعطوا مكانة مهمة للثقافات التي ينتمون إليها، وعهدت بمهمة البحث وترشيحات للفنان أنور أبو دراغ عازف الجوزة وصوت المقام العراقى القادم الذي سخر كل وقته ورشح لي مجموعة كبيرة من العازفين مع من خبرت من قبل وبدأت باختيار عازفي طنبور والآلات التي ذكرت أعلاه. وبدأنا في إرسال النوتات. الجميع كان سعيداً بالفكرة والردود الإيجابية كانت تتوالى، ولم تعتذر عن المشاركة إلا مجموعة من العازفين الهنود والباكستانيين لتزامن وقت الحفل المقرر مع مهرجان يجمعهم في الهند، وكان لابد من المضي قدماً وتجسيد الحلم، وفيما بعد، البحث عن تطويرها الذى قد يستمر سنوات. وأنا منغمس بالتأليف والكتابة لهذه الأوركسترا كان على الخط الثاني لافتتاح فرع بيت العود العربي في أبو ظبى مع هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، يد هنا ويد هناك. أنجزت الكتابة الموسيقية (التأليف) وبدأنا في إرسال النوتات إلى العازفين في كل مكان وتحدد موعد الحفل 1 أبريل/نيسان 2008 على مسرح قصر الإمارات ضمن المهرجان الخامس للموسيقى الكلاسيكية، وما كان لهذا الحلم أن ينجز بهذه الدقة بالتخطيط لولا شراكة المهرجان معي في دعم هذا الموضوع وتوفير ما يلزم له من آفاق وسبل إنتاجية مع وجود المناخ المناسب في القاهرة ضمن مشروعي بيت العود العربي، وما وفرته لي وزارة الثقافة المصرية من مبنى أثري، هو منزل الهراوي الذي منحنا الاستقلالية والعمل على تنمية الثقافة لدى جيل ابتدأ الموسيقى معي من أول السلم حتى أصبحوا اليوم زملاء لي. تضافرت كل هذه الأحلام والإمكانيات والقناعات لنلتقى في أبو ظبي قبل موعد الحفلة بأيام ولتصل أفواج العازفين من الدول، وبدأ اللقاء الأول حيث تمت جميع بروفات الفرقة على مسرح المجمع الثقافي الذي أصبح اسمه الآن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كنت شديد الخوف من فكرة تعديل الآلات كل الآلات التي نعمل ضمنها بحاجة إلى وقت كبير في الدوزان (تعديل). وهناك أيضاَ مشكلة الاختلاف بالكومات ضمن الربع تون الذي يحدد أسماء المقامات العربية، يعني مقام الرست في تركيا ليس كما هو في مصر، وليس كما هو في العراق، أو في إيران، وهنا بدأ الدخول في التفاصيل الدقيقة التي لم يجتمع عليها الشرق من قبل، وبما أني أتعامل مع مجموعة من المحترفين والمؤمنين بالفكرة، فغالبية العازفين الذين جاءوا من شتى أرجاء العالم لم يسألوا سؤالا واحدا حول كم سيتقاضون؟ كانت الأسئلة فنية، وكان الخوف هو الغالب وفي البروفة الأولى بدء الاضطراب على وجوه بعض العازفين لأنهم اعتادوا على الحرية في الأداء، أي من الصعب وضعهم في قالب وفي آلية دقيقة للعمل، وبدأت أنظر في وجوه 67 عازفا وأحاول أن أخلق الطمأنينة بأن هذا العمل سينجز مهما يحمل من تكنيك قد يصعب على بعض الآلات أو بعض العازفين، وهنا بدأ التوظيف، توظيف كل عازف وكل آلة في مكانها الصحيح، مع الطلب بأن يكون توظيفها جديداً، وهذا جعل العازفين يفتحون كل حواسهم من أجل فهم الفكرة وفهم الأبعاد بالدرجات الصوتية. وبدأنا نعزف الأعمال ببطء شديد كى نصل إلى السرعة المطلوبة شيئاً فشيئاً، كما يحصل في الأعمال الجديدة للأوركسترات في أي مكان، لكن الفرق أن هذه الآلات ليست آلات أوركسترا كما هو الحال في الاوركسترا السيمفوني، لم تخضع لدراسات فيزيائية وعلمية في كثير مما يسمى بعلم الآلات الموسيقية التي خضعت له آلات الأوركسترا السيمفونية على مر عقود من الزمن، ولكن المؤلفات الموسيقية هي التي دفعت صناع الآلات في ما مضى في تطوير صناعة الآلات الموسيقية، هذا استطعنا أن نفعله مع العود والقانون والآن آلات أخرى، ولكن كل الشرق بحاجة إلى العمل ضمن هذه الرؤية الكونية للتطور المنطقي الذي نريد أن نحافظ فيه على طبيعة وصوت الآلة وعراقتها، ولكن بمواصفات يستطيع المتعلم أن يتعامل معها بعقلية جديدة. كنا نعمل في اليوم بروفة صباحية وبروفة مسائية، اندفاعي كنت ألجمه لأني أريد أن أمضى سريعاً وأرى تجسيداً لأفكاري على آلات مختلفة كان يصدم هذا بالأدوات التقليدية وبمستوى التعبير على بعض الآلات الموسيقية التي لم تتعدى الأداء الروحاني المسترسل والهادئ، ولكن بعد البروفة السادسة بدأت ملامح الغضب الداخلي الذي كنت أراه على وجوه بعض العازفين بدأ يحل محلها فرح حقيقى بأن هذا العازف وهذه الأداة أصبحت قادرة على أن تقول شيئاً جديداً وتكنيكاً لم يعهده من قبل. وبدأ الانفراج الذي يقف على سيطرة العازفين على البرنامج، وإذا أردت أن أتكلم بدون ادعاء التواضع فكانت الثيمات الموسيقية فيها ما يسر كثير من العازفين كانوا متأثرين بجمل موسيقية تبدو أنها منتمية إلى ثقافة الشرق وايضاً منفتحة على الإنسان في كل مكان. كنت وما زلت مؤمناً بأن الإبداع كوني لا يقف عند حدود العرق والجنس واللغة وكل المسميات، بل هو عنوان لقيمة عليا اهتدى لها الإنسان، أردت بتجسيد هذا الشكل أن اخترق العالم جغرافياً وسياسياً وموارد، ها هو يأتلف ويقدم عرضاً موسيقياً منسجماً وكأننا عملنا طوال سنين مجتمعين. لحظات وتفتح الستار وأنا أوهم نفسي بأني هادئ لأني عملت ما فيه الكفاية من عام كامل من العمل، ولكن لن يكون هذا العرض إلا كما كانت آخر ثلاث بروفات، عمل دقيق ومتقن ولكن من أين نأتي بالطمأنينة واليوم المسؤولية تبدو أكبر شأنا من كل ما قدمت طوال سنين مضت. أسأل هنا وهناك أسأل القوانين هل أتم الجميع الدوزان وعازفي آلات السنطور الثلاثة، هل هم منسجمون معاً في أسلوب النقل والدوزان، خصوصاً أن السنطور العراقي لا يشبة السنطور الإيراني مع أن الصوت نفسه والمنبع نفسه والكمنشة الإيرانية لا تشبه آلة الجوزة، وإن كان التكنيك وطريقة المسكة واحدة أسوة بالآلة الصينية البيبا، لكن كل هذا الاختلاف هو فلسفة الشرق وجماله وروحه وثراؤه، كمن يصنع سجادة فيها ألوان كثيرة وعليه أن يخططها لتصبح لوحة فائقة الجمال فتحت الستارة على منظر كل من شاهده يعلم أنها المرة الأولى التي يرى ويسمع فيها حدثاً كهذا. بدأ العرض وأنا أكاد أسمع دقات قلبي وكأني لأول مرة أخرج على المسرح احتراماً لأصدقائي، لم أدخل كما يدخل المايسترو، بل كنت جالساَ معهم حين فتحت الستارة جناحيها لتنطلق القطعة الأولى، عنوانها تحية، وما أن شرعنا بالقطعة الثانية «الشيخ وأنا» التي كتبتها بعد جلسة سماع في منزل نجل الشيخ قارئ القرآن العظيم الشيخ مصطفى إسماعيل حتى بدأت الحياة تدب في عروقي وتتحول إلى استرخاء وإلى بث هذه الراحة على جميع العازفين والجمهور، جاء دور «جدارية الحياة» وهذه من الأعمال التي كتبت فيها أربعة خطوط متوازية أسجل فيها تفاصيلنا وأعلنها على الحياة ثم «زمان النهاوند» حيث عاش الشرق ترفاً وشعراً وإبداعاً أثرى ثقافة العالم أجمع وبدأت تتوالى بقية القطع «بنفسج الأصابع»، «حوار مع الكبار»، «التراث العربي العراقي الشامي» و»بين النخيل» هذا العمل الذي أردت أن أسجل فيه أن أكثر من أربعين مليون نخلة قتلت في العراق منذ بدأ الاحتلال الأمريكي للعراق وبما أن الشرق يحمل بكل أجزاء أرضه تراثاً دينياً وروحيا فكان حاضراَ الشخصية التي اختارها اليونسكو 2007 شخصية العام مولانا جلال الدين الرومي، قدمت هذا العمل بمشاركة مؤدي التنورة محمود شلبي وبدأ رد فعل الجمهور يتصاعد ويتصاعد ويتصاعد في كل قطعة كنت أرى أن التجربة بدأت تترسخ في أذن الحضور، وبدأ الفرح يعم وجوه العازفين كونهم مشاركين فاعلين في نجاح هذه الفكرة التي ضمت عازفين تتراوح أعمارهم بين 9 إلى 60 عاما. من مصر العراق السودان الإمارات اليمن الأردن فلسطين لبنان سوريا تونس تركيا إيران اليونان الصين تايلند إيرلندا اليابان بلجيكا، وجاءت تحية الختام التي أرادها الجمهور وقوفاً لأنه كان قد أحس بحجم الجهد المبذول، والنتيجة التي وصلت إليها متقنة إلى درجة كبيرة، خصوصاً أن الأيام التي سبقت حفلنا هذا كان فيها الفلهرمونيك لندن، البولشوي وكل الفرق العالمية التي تمتاز بالخبرة والإتقان والإبهار، إذ لو وضعنا اسم أوركسترا الشرق على بوابات البحث في الإنترنت أصبح لها مكاناً لم يكن قبل هذا التاريخ، ولكن هذا أول الطريق لعمر هذه الأوركسترا بدأت الدعوات تتوالى لتقديم عروض بدول مختلفة منها أوبرا عُمان ومهرجان جرش أيضا، بدأت الأفكار تتوالى وضم باقي دول الشرق التي لم تتسن لي دعوتها في الحفل الأول، أختتم كتاباتي في جريدة القدس بهذا المقال متمنياً لكم جميعاً أن تكونوا في أمان وهذا ما نحتاجه جميعاً في مواجهة ما يحدث حولنا.

bottom of page